شاب طائع

شاب طائع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:

فإنّ فضل الله واسع، ورحمته سبقت غضبه، وهو الغني المغني، صاحب الجود والكرم، وإليه الأمر من قبل ومن بعد، وله الحكم وإليه ترجعون، امتن على المؤمنين من عباده بأن وفقهم لطاعته، واجتناب معصيته، ثم أثابهم على الطاعة بدخول جنته، والفوز برضوانه، والاستظلال تحت ظل عرشه في يوم لا ظل فيه إلا ظله كما جاء في حديث – لنا معه وقفة – عن أبي هريرة  عن النبي   قال: سبعة يظلهم الله – تعالى – في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلقٌ في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه 1.

الشـرح:

قوله: سبعة ظاهره اختصاص هؤلاء السبعة بالثواب المذكور وهو الاستظلال تحت ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، وقد وجهه الكرماني بأن الطاعة إما أن تكون بين العبد وبين الرب، أو بينه وبين الخلق، فالأول باللسان وهو الذكر، أو بالقلب وهو المعلق بالمسجد، أو بالبدن وهو الناشئ في العبادة، والثاني عام وهو العادل، أو خاص بالقلب وهو التحاب، أو بالمال وهو الصدقة، أو بالبدن وهو العفة2.

وذلك لأنه قد جاء في أحاديث أخرى ذكر أكثر من هذه السبعة؛ من هذه الأحاديث ما هو صحيح ومنها ما هو غير ذلك .. وقد أفرد الإمام ابن حجر ذكر الخصال المذكورة في حديث السبعة، وذكر غيرها من الخصال في جزء سماه “معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال”3 قال ابن حجر – رحمه الله -: وقد نظم السبعة العلامة أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل فيما أنشدناه أبو إسحاق التنوخي إذناً عن أبي الهدى أحمد بن أبي شامة عن أبيه سماعاً من لفظه قال:

وقال النبي المصطفى إن سبعة يظلهم الله الكريم بظـله
محب عفيف ناشئ متصدق وباكٍ مصلٍ والإمام بعدله

يقول ابن حجر معقباً على البيتين السابقين لأبي شامة:

وزد سبعة إظلال غاز وعونه وإنظار ذي عسر وتخفيف حمله
وإرفاد ذي غرم وعون مكاتب وتاجر صدق في المقال وفعلـه 4

ثم ذكر أنه قد جاءت أحاديث أخرى تذكر غير هؤلاء المذكورين ولكنها ضعيفة.

وقد يقال أن ذكر السبعة هنا مفهوم عدد، ومفهوم العدد لا يدل على الحصر، وهؤلاء السبعة غير مختصين بالرجال فحسب بل إنه يشمل النساء في جميع ما ذكر من ثواب السبعة الأصناف المذكورة في الحديث، ولكن النساء يستثنين من خصلة واحدة وهي الإمامة العظمى فإنه من غير المباح للنساء شرعاً أن يتولين الولاية العامة على المسلمين.

ومن نكات العدد سبعة وملحه العجيبة أن الله خلق سبع سموات طباقاً، وذكر ذلك سبع مرات في آيات مختلفة، ومدار الزمن على سبعة أيام، وأكرم نبيه بالسبع المثاني وهي سورة الفاتحة، وقد ورد العدد سبعة في كثير من العبادات، فالطواف حول الكعبة سبع مرات، والسعي بين الصفا والمروة سبع مرات، ورمي الجمرات بسبع  حصيات، وقد نزل القرآن على سبعة أحرف كما ورد في الحديث، وشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله عدد كلماتها سبع، ومن تصبح سبعاً من عجوة المدينة لم يضره سحر ولا سم، وغيرها من النكات والملح العجيبة.

قوله: يظلهم الله في ظله يخبر النبي  أن هناك أصناف من الناس يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وإضافة الظل إلى الله إضافة تشريف ليحصل امتياز هذا على غيره؛ كما قيل للكعبة بيت الله مع أن المساجد كلها ملكه5.

ففي ذلك اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، وتدنو الشمس منهم حتى تكون على قدر ميل، ويلجمهم العرق إلجاماً، ويشتد كربهم، ويزداد خوفهم وفزعهم؛ في ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة؛ تظلل ثلة من المؤمنين الموحدين الصادقين بظل عرشه  يوم لا ظل إلا ظله، وتؤمن مما يخاف الناس منه!

ولعلّك أخي تقول: من هم هؤلاء الأصناف السبعة لعلي أن أعمل بما يعملون فأكون ممن يستظلون تحت ظل الله يوم لا ظل إلا ظله؟ فأقول لك أسوقهم على ترتيبهم كما جاء ذكرهم في الحديث:

الصنف الأول: قوله: إمام عادل عادل اسم فاعل من العدل، والمراد به صاحب الولاية العظمى، ويلتحق به كل من ولي شيئاً من أمور المسلمين فعدل فيه، ويؤيده ما جاء في حديث عبد الله بن عمر رفعه: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا6، وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط، ولا تفريط7.

هذا الإمام العادل هو الذي لا يحكم إلا بالحق، ولا يظلم عنده أحد، ولا يحابي أو يجامل في الحق أحداً ولو كان من أعز الخلق عليه، وأحبهم إليه، يرى القوي ضعيفاً حتى يأخذ الحق منه، والضعيف قوياً حتى يأخذ الحق له، لا فرق عنده بين قريب وبعيد، وسيد ومسود في معاملتهم بالحسنى، والرفق بهم، والإحسان إليهم، قال أبو بكر الصديق في إحدى خطبه المنبرية: “أيها الناس! قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق – إن شاء الله تعالى -، لا يدع منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله”.

والإمام العادل هو الذي يعتبر رعيته كأبنائه فيما لهم من العطف والحنان، والتربية الصالحة، فيعلم جاهلهم، ويواسي فقيرهم، ويربي صغيرهم، ويعالج مريضهم، ويكرم حاضرهم، ويحفظ غائبهم في أهله وماله لأن ذلك من أداء الأمانة كما قال تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا8، وقال علي : “حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له، وأن يطيعوا، وأن يجيبوا إذا دعوا”9ما من رجل ولي عشرة إلا أتي به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يقضى بينه وبينهم10. وقال رسول الله : خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنوهم ويعلنونكم قالوا: يا رسول الله: أفلا ننباذهم؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة11، ولن يظل الله ​​​​​​​ يوم القيامة بظل عرشه إماماً مستبداً، أو ملكاً جباراً، أو أميراً جائراً يتسلط بجبروته على المسلمين، فيذل من أعزه الله، أو يعز من أذله الله12.

الصنف الثاني: قوله: وشاب نشأ في عبادة اللهخص الشاب بالذكر؛ لأن الشباب يغلب عليه الشهوة، ولما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى، فهو شاب في ريعان شبابه، ولكنه تفرد وتميز عن بقية الشباب الذين نشأوا وتربوا، وترعرعوا وشابوا، وهرموا في عبادة الشيطان، ومتابعة الأغاني والألحان، والتسكع في الأسواق والطرقات، ومعاكسة الفتيات، وهجر القرآن، ومشاهدة البرامج والمسلسلات وسماع الغناء والألحان!

هذا الشاب المستظل في ظل عرشه تعالى يوم لا ظل إلا ظله تفرد وتميز في الدنيا بأنه “القوي المالك أمر نفسه في طاعة الله، واستعمل جسمه، وروحه، وماله، وما أنعم الله به عليه في مرضاته، فقد استحق من الله خير الجزاء، وكان محبوباً في أهله وقومه ومواطنيه؛ لأنه يريد الخير ويفعله، وإن عجز عنه دعا إليه، ورغب فيه، وأثنى على فاعله، وإن عرضت له المعصية، وزينها له الشيطان لم يمنعها منها إلا دينه وخوفه من الله، وما جبل عليه من طاعة الله، والاشتغال بعبادته .. وهو الذي يستطيع الجهاد في سبيل الله، وكسب المال من حله، وبر والديه، وتربيته أبنائه، وصغار إخوانه، وخدمة بلاده، ونفع أمته، فهو الجندي في الميدان، والتاجر في السوق، والفلاح في المزرعة، والطبيب في المستشفى، والعامل في المصنع، والعضو الصحيح في الجمعيات والأندية، إذا دعي إلى الخير لبّى، وإذا رأى الشر أو سمع به أزاله، وحارب أهله، وإن فقد النصير ابتعد عنه، وأنكره بقلبه ولسانه، وما ظهر الدين، وعرف الناس شرائع النبيين؛ إلا بفضل الشباب الصالحين .. فهم النقباء والحواريون، والأنصار والمهاجرون، وهم العلماء والمعلمون، والشعراء المبدعون، والخطباء المصقعون، والتاريخ أصدق شاهد بفضل الشباب الناشئين في طاعة الله، والله – تعالى – يقول في أصحاب الكهف: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى 13. فهنيئاً لشاب تقي تعلق قلبه بالمساجد، ومجالس الخير، وعمل الصالحات، واغتنم شبابه قبل هرمه، وصحته قبل سقمه، وغناه قبل فقره، وفراغه قبل شغله، وحياته قبل موته .. وأكرم الناس نفساً، وأنداهم كفاً، وأطيبهم قلباً، وأرقهم عاطفة، وأصدقهم عزماً؛ هو الشاب المؤمن التقي، الذي يجل الكبير ويحترمه، ويحن إلى الصغير ويرحمه، لا تسمعه إلا مهنئاً أو معزياً، أو مشجعاً أو مسلياً، أو مسلّماً، ولا تراه إلا هاشاً باشاً، طلق الوجه مبتسماً، يحليه إيمانه بمكارم الأخلاق، ويبعده دينه عن طيش الصغر، وإصرار الكبر، وجدير والشباب هذا شأنه بأن يظله الله بظل عرشه، وأن يكون آمناً إذا فزع الناس أجمعون”14، فهنيئاً له تلك المنزلة.

ولذلك نهمس في أذن كل شاب مؤمن تقي نشأ في عبادة الله بأن يواصل طريقه ومسيره إلى الله، ولا يغتر بكثرة الهالكين، أو أولئك الشباب التائهين في بحور الشهوات، فإنها والله عما قريب ستزول وتفنى، ولن يبق إلا ما قدمه الإنسان من البر والتقوى، وكذلك لا ننسى أن نهمس في أذن ذلك الشاب البعيد عن الله، والذي قد نصَّب العداوة بينه وبين بيوت الله نقول له: عد إلى الله، وأب إليه، فإنه والله أفرح بك وبتوبتك من ذاك الذي كان في فلاة، وضاعت منه راحلته، وأيس من الحياة، ثم وجدها فقال عندها من شدة الفرح: “اللهم أنت عبدي وأنا ربك” أخطأ من شدة الفرح.

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وإلى الحلقة القادمة – إن شاء الله – لاستكمال بقية الأصناف السبعة.


1– رواه البخاري- الفتح –  كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين، رقم (1423) ط: دار الريان. وفي غيرها من المواضع. ورواه مسلم مع شرح النووي،  كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة (7 / 120). ط: دار الريان.

2– فتح الباري لابن حجر ( 2/168) ط: دار الريان.

3– فتح الباري لابن حجر (2/169).

4– المصدر السابق (2/168-169).

5– انظر الفتح (2/169) .

6– رواه مسلم كتاب الإمارة، باب فضل الإمام العادل وعقوبة الإمام الجائر، رقم (3406).

7– الفتح (2/170).

8– النساء (58).

9– إصلاح المجتمع صـ (47) طباعة المطبعة العصرية – الكويت (1392هـ).

10– رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات وصححه الألباني في الترغيب:2201

11– انظر الحديث رواه مسلم كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم، رقم (3447).

12– إصلاح المجتمع صـ ( 48- 49) بتصرف.

13الكهف (13) .

14– إصلاح المجتمع صـ (50 – 51).