من سمّع سمّع الله به

من سَمّعَ سَمّعَ اللهُ بِهِ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:

نص الحديث:

عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال النبي : مَنْ سَمّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ1.

المعنى العام:

إن أضرّ شيء على العبد أن يعمل عملاً، أو يقول قولاً؛ لا يريد به وجه الله – تعالى -، جميل ظاهره، قبيح باطنه، يسرّ غير ما يعلن، ويظهر خلاف ما يبطن، يسبح ويهلل، ويقرأ القرآن، ويخطب، ويعلم، ويدعو إلى الله بلسانه، وقلبه غافل ذاهل، وبغير الله مشغول، وعلى سواه معوّل ومتكل، وحسبه من الخير ثناء الجاهلين عليه، واستمالة قلوبهم إليه، إذا قرأ جوَّد، وإذا وعظ بكى، وإذا خطب أو درس لم يلحن، وجاء بالعجب العجاب، ولو أخلص في قلبه لكان الزعيم المطاع، والمصلح الحكيم، والمرشد العظيم، ولكنه الخادع المنافق، والكذاب المكار المزور، يقول بفيه ما ليس في قلبه، ويرائي الناس بما يعمله لربه، وفيه يقول الله – تعالى -: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ۝ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (الماعون:4-7)، ويحذر الله عباده المؤمنين من الرياء بقوله – تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (البقرة:264)، وفي آية أخرى يقول تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً (النساء:38)، وبهذا الحديث وأمثاله يحذرنا النبي من الرياء والسمعة، وأن يعمل المسلم عملاً يبتغي به الشهرة وثناء الناس عليه؛ لأنه لا يصنع الخير حباً فيه، ولا يترك الشر كراهة له، بل ربما إذا خلا بنفسه ارتكب العظائم، واقترف الجرائم، وقصر في الواجبات والمندوبات، ومن أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه – تبارك وتعالى -، واتصف فيها بصفة المنافقين إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً۝ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (النساء:142-143).

شرح الحديث:

قوله  : من سمّعَ سمّعَ الله به سمَّعَ بتشديد الميم، ومعناه: أظْهَرَ عمَلَهُ للنَّاس ريَاءً، سمَّعَ الله به أي : فضَحه يومَ القيامة، قال التهانوي: “السمعة: تكون في القول2، وقال ابن عبد السلام: السمعة أن يخفى عمله ثم يحدث به الناس3، قال ابن حجر: قال الخطَّابي: المعنى مَنْ عمل عملاً على غير إخلاص يريد أن يراه الناس، ويسمعوه؛ جوزِيَ على ذلك بأن يُشهِّر اللهُ به ويفضحه، ويُظهر ما كان يُبطنه، وقيل : مَنْ قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس، ولم يرد به وجه الله؛ فإنَّ اللهَ يجعله حديثاً عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم، ولا ثواب له في الآخرة، وقيل: المراد: مَنْ قصد بعمله أن يسمعه الناس، ويروه ليُعَظِّموه، وتعلو منزلته عندهم؛ حصل له ما قصد، وكان ذلك جزاؤه على عمله، ولا يُثاب عليه في الآخرة، وقيل: المعنى: مَنْ سَمَّع بعيوب الناس وأذاعها أظهر اللهُ عيوبه وسمَّعَه المكروه، وقيل معنى سمَّع الله به شهره أو ملأ أسماع الناس بسوء الثناء عليه في الدنيا أو في القيامة بما ينطوي عليه من خبث السريرة4.

قال الإمام النووي:”قال العلماء معناه من رآء بعمله، وسمعه الناس ليكرموه، ويعظموه، ويعتقدوا خيره؛ سمع الله به يوم القيامة الناس، وفضحه، وقيل معناه من سمع بعيوبه، وأذاعها، أظهر الله عيوبه، وقيل: أسمعه المكروه، وقيل: أراه الله ثواب ذلك من غير أن يعطيه إياه، ليكون حسرة عليه، وقيل: معناه من أراد بعمله الناس أسمعه الله الناس، وكان ذلك حظه منه”5 وقال الشيخ ابن عثيمين- رحمه الله – عند قوله: من سمَّعَ سمَّعَ الله به يعني: من قال قولاً يتعبد به الله، ورفع صوته بذلك حتى يسمعه الناس، ويقولون فلان كثير الذكر، كثير القراءة وما أشبه ذلك – فإن هذا قد سمَّع عباد الله يرائي بذلك – سمّع الله به أي فضحه وكشف أمره، وبيَّن عيبه للناس، وتبين لهم أنه مرائي، والحديث لم يقيد هل هو في الدنيا أو في الآخرة، فيمكن أن يسمع الله به في الدنيا فيكشف عيبه عند الناس، ويمكن أن يكون ذلك في الآخرة وهو أشد – والعياذ بالله – وأخزى، كما قال الله تعالى: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (فصلت:16).

ويدخل في قوله : من سمَّع سمَّع الله به الذين يشققون الخطب، وينمقون الألفاظ، ويتقعرون في الكلمات، ويمططون أصواتهم بالتلاوة والآذان ليقال أصواتهم حسنة، وألسنتهم فصيحة، ومالهم من بلاغة القول إلا ما تستحسنه الآذان، ولا ينفذ منها إلى القلوب، وإنما يؤثر في النفوس القول البليغ الذي يتوصل به السامع إلى قصد المتكلم، ويبلغ به المنفعة المرجوة له ولقائله، وكذلك يدخل فيه الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين، والذين يتتبعون عثرات الناس، ويتكشفون عوراتهم من أجل أن يفضحوهم، وإذا سمعوا منهم الكلمة طاروا بها في الآفاق، وملئوا بها القلوب والآذان لا لشيء سوى الإنكار على قائلها، والتسميع به، والله لا يحب كل أفاك أثيم6.

وقوله : وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ الرياء مصدر قولهم: راءه يرائيه رياءً ومراءةً، وهو مأخوذ من مادَّةِ رأى التي تدل – كما يقول ابن فارس – على نظر وإبصار بعين أو بصيرة، يقال من ذلك: راءى فلان، وفعل ذلك رئاء الناس ورياء الناس وهو أن يفعل شيئاً ليراه الناس7، قال الله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (آل عمران:105).

أما في الاصطلاح: فقد قال الجرجاني: الرياء: ترك الإخلاص في العمل بمراعاة غير الله فيه8، وقال ابن حجر الهيتمي: “حد الرياء المذموم: إرادة العامل بعبادته غير وجه الله – تعالى -، كأن يقصد اطلاع الناس على عبادته، وكماله، فيحصل له منهم نحو مال، أو جاه، أو ثناء9، وقال ابن حجر العسقلاني: الرياء إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها، فيحمدوا صاحبه10.

وكل عمل فيه رياء معدود من السيئات وإن كان صالحاً في ظاهره، وما يلبث صاحبه أن يظهر سره، ويتضح أمره، فيحيق به مكره، وعلى الإخلاص وعدمه يترتب حسن الخاتمة وسوءها كما جاء في الحديث الشريف: إنَّ أَحدُكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار؛ فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة؛ فيدخلها11، فالآيات والأحاديث في الرياء كثيرة فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (البقرة:264)، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً (النساء:38).

أما الأحاديث فقد جاءت أحاديث كثيرة منها حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – الذي بين أيدينا، وكذلك حديث أبي موسى الأشعري  “أن رجلاً أعرابياً أتى النبي  فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه؛ فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله : من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله12.

وعن محمود بن لبيد  قال : قال رسول الله : إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء، إن الله – تبارك وتعالى – يقول يوم تجازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون بأعمالكم في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟13قال علي بن أبي طالب : “للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه وينقص إذا ذم”14، وقال الفضيل بن عياض – رحمه الله -: “كانوا يراءون بما يعلمون، وصاروا اليوم يراءون بما لا يعلمون”15، وعن عاصم قال: كان أبو وائل – شقيق ابن سلمة – إذا صلى في بيته ينشج نشيجاً ولو جعلت له الدنيا على أن يفعله وواحدٌ يراه ما فعله”16.

الفرق بين الرياء والشرك الأكبر:

قال ابن حجر الهيتمي – رحمه الله -: يتضح الفرق بين الرياء وهو الشر الأصغر، وبين الشرك الأكبر؛ بمثال هو أن المصلي مراءاة يكون رياؤه سبباً باعثاً له على العمل، وهو تارة يقصد بعمله تعظيم الله – تعالى -، وتارة لا يقصد شيئاً، وفي كل منهما لا يصدر عنه مكفر، بخلاف الشرك الأكبر الذي لا يحدث إلا إذا قصد تعظيم غير الله – تعالى -، وعلم بذلك أن المرائي إنما حدث له هذا النوع من الشرك بتعظيمه قدر المخلوق عنده حتى حمله ذلك على الركوع والسجود، فكأن المخلوق هو المعظم بالسجود من وجه، وذلك غاية الجهل17.

أقسام الرياء:

ذكر الغزالي: أن الرياء بحسب ما يراءى به خمسة أقسام:

1- الرياء في الدين بالبدن، وذلك بإظهار النُحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد، وعظم الحزن على أمر الدين، وغلبة خوف الآخرة، أما رياء أهل الدنيا فيكون بإظهار السمن، وصفاء اللون، واعتدال القامة،، وحسن الوجه، ونظافة البدن، وقوة الأعضاء.

2- الرياء بالهيئة والزي، وذلك بتشعيث شعر الرأس، وإبقاء أثر السجود على الوجه، وغلظ الثياب، وتقصير الأكمام, وترك تنظيف الثوب، وتركه مخرقاً، كل ذلك لإظهار أنه متبع للسنة، أما مراءاةُ أهل الدنيا فبالثياب النفيسة، والمراكب الرفيعة، وأنواع التوسع والتجمل في الملبس، والمسكن.

3- الرياء بالقول ويكون من أهل الدين بالوعظ والتذكير، والنطق بالحكمة، وحفظ الأخبار والآثار لإظهار غزارة العلم، ومن ذلك تحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمامهم. وأما أهل الدنيا فيكون رياؤهم بحفظ الأشعار والأمثال، والتفاصح بالعبارات، وحفظ الغريب من النحو واللغة للإغراب على أهل الفضل.

4- الرياء بالعمل وذلك كمراءة المصلي بطول القيام، والركوع، والسجود ونحو ذلك، أما أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختر والاختيال وغيرهما مما يدل على الجاه والحشمة.

5- المراءاة بالأصحاب والزائرين كأن يطلب المرائي من عالم أن يزوره ليقال: إن فلاناً قد زار فلاناً، ومن ذلك كثرة ذكر الشيوخ، قال الغزالي: فهذه الخمسة هي مجامع ما يرائي به المراءون، وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد18.

درجات الرياء:

للرياء بحسب قصد المرائي أربع درجات:

الأولى: وهي أغلظها ألا يكون مراده الثواب أصلاً كالذي يصلي أمام الناس، ولو انفرد فإنه لا يصلي، وربما دفعه الرياء إلى الصلاة من غير طهر.

الثانية: أن قصده للثواب أقل من قصده لإظهار عمله، وهذا النوع قريب مما قبله في الأثم.

الثالثة: أن يتساوى قصد الثواب وقصد الرياء، بحيث أن أحدهما وحده لا يبعثه على العمل، ولكن لما اجتمع القصدان انبعثت فيه الرغبة في العمل، وهذا قد أفسد بمقدار ما أصلح، وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم من العقاب.

الرابعة: أن يكون اطلاع الناس مرجحاً ومقوياً لنشاطه، ولو لم يكن ذلك ما ترك العبادة، وهذا النوع لا يحبط أصل الثواب ولكنه ينقص منه، أو يعاقب صاحبه على مقدار قصد الرياء، ويثاب على مقدار قصد الثواب”19.

حكم الرياء:

ذكر الذهبي الرياء ضمن الكبائر، وذكر أدلة ذلك من الكتاب، والسنة، وآثار السلف الصالح20، وعده ابن حجر الكبيرة الثانية بعد الشرك بالله، وقال: شهد بتحريمه الكتاب، والسنة، وانعقد عليه إجماع الأمة، وبعد أن أشبع القول في ذكر أدلة تحريمه قال: المعنى في تحريمه وكونه كبيرة وشركاً مقتضياً للعن أن في استهزاء بالحق تعالى، ومن ثم كان الرياء من كبائر الكبائر المهلكة، ولذلك سماه الرسول الشرك الأصغر21، وفي الرياء أيضاً تلبيس على الخلق لإيهام المرائي لهم أنه مخلص مطيع لله – تعالى – وهو بخلاف ذلك22.

وقال ابن حجر أيضاً: إذا أطلق لفظ الرياء – شرعاً – فالمراد الرياءُ المذموم وهو العبادة التي يراد بها غير وجه الله – تعالى -، وقد يطلق الرياء على أمر مباح وهو طلب نحو الجاه والتوقير بغير عبادة كأن يقصد بزينة لباسه الثناء عليه بالنظافة، والجمال ونحو ذلك، ووجه عدم حرمة هذا النوع أنه ليس فيه ما في الرياء المحرم من التلبيس بالدين، والاستهزاء برب العالمين.

وأقبح أنواع الرياء ما تعلق بأصل الإيمان وهو شأن المنافقين، يلي ذلك المراءاة بأصول العبادات الواجبة كأن يعتاد تركها في الخلوة، ويفعلها في الملأ خوف المذمة، وهذا يؤدي إلى أعلى أنواع المقت، يلي ذلك المراءاة بالنوافل التي يفعلها المرائي باعتيادٍ أمام الناس، ويرغب عنها في الخلوة، ويلي ذلك في القبح المراءاة بأوصاف العبادات كتحسنها، وإظهار الخشوع فيها في الملأ، والاقتصار في الخلوة على أدنى درجاته23.

معالجة الرياء:

لا يستطيع أحد أن يقمع الرياء إلا بمجاهدة شديدة، ومكابدة لقوة الشهوات، ويكون ذلك بأمرين: الأول: قلع عروقه، واستئصال أصوله وهي: لذة المحمدة والفرار من ألم الذم، والطمع فيما في أيدي الناس، وهذا الثلاثة راجعة إلى حب المنزلة، والجاه.

الثاني: أن يشمر الإنسان عن ساعد الجد لدفع ما يعرض من خاطر الرياء، وخواطره ثلاثة أيضاً هي: العلم باطلاع الخلق ورجاء اطلاعهم، ثم هيجان الرغبة من النفس في حمدهم، وحصول المنزلة عندهم، ويعقب ذلك هيجان الرغبة في قبول النفس له أي الحمد والمنزلة، والركون إليه، وعقد الضمير على تحقيقه، والخاطر الأول يسمى معرفة، والثاني رغبة وشهوة، والثالث هو العزم وكمال القوة في دفع الخاطر الأول قبل أن يعقبه الثاني، فإذا خطر له معرفة اطلاع الخلق أو رجاء اطلاعهم دفع ذلك بأن قال: ما لي وللخلق علموا أو لم يعلموا، والله عالم بحالي، فأي فائدة في علم غيره؟ فإن هاجت الرغبة إلى لذة الحمد فعليه أن يذكر تعرض المرائي للمقت عند الله يوم القيامة  وخيبته في أحوج أوقاته إلى أعماله، وعندئذ تثور عنده كراهة للرياء تقابل تلك الشهوة إذ يتفكر في تعرضه لمقت الله، وعقابه الأليم، الشهوة تدعوه إلى القبول، والكراهة تدعوه إلى الإباء، والنفس تطاوع – لا محالة – أواهماً ويتضح من ذلك أنه لا بد في رد الرياء الذي خطر أثناء العبادة من المعرفة، والكراهة، والإباء.

أما من الناحية العملية فإن دفع الرياء يستلزم من المرء أن يعود نفسه إخفاء العبادات، وإغلاق الأبواب دونها كما تغلق الأبواب دون الفواحش، حتى يقنع قلبه بعلم الله، ولا تنازعه نفسه بطلب علم غيره الله به، وهذا وإن كان يشق في البداية إلا أنه يهون بالصبر عليه، وبتواصل ألطاف الله ​​​​​​​ وما يمد به عباده من التأييد والتشديد24

مضار الرياء:

1- الرياء محبط للأعمال، مضيع لثوابها.

2- الرياء سبب للمقت عند الله، والمرائي ملعون ومطرود في رحمة الله تعالى.

3- الرياء من كبائر المهلكات25.

4- الرياء دليل على غاية جهل المرائي.

5- الرياء غصن من شجرة في القلب ثمرها في الدنيا: الخوف، والغم، وضيق الصدر، وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة: الزقوم، والعذاب المقيم26.

6- الرياء يجلب الفقر، ويعرض صاحبه للفتن.

7- الرياء يفضح أصحابه على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.

8- يضاعف الله عذاب المرائين من القراء فيجعلهم في وادي الحزن في جهنم، وساءت مصيراً.

9- الرياء يحول العمل الصالح إلى نقيضه، فيحمل صاحبه به وزراً بدلاً من أن يكون له أجراً، أو يكون عليه ستراً.

10- لا يسلم المرائي من أن يفتضح أمره في الدنيا فيسقط من أعين الناس، وتذهب هيبته، ناهيك عن حسرته يوم القيامة.

11- يظهر الله عيوب المرائي، ويسمعه المكروه جزاء ما قدمت يداه27.

عافانا الله من السمعة والرياء إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين.


1– رواه البخاري (6134)، كتاب الرقاق، باب الرياء والسمعة. ومسلم (4/2289)(2986)كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله.

2– كشاف اصطلاحات الفنون (3/607).

3– فتح الباري (11/344).

4– فتح الباري (11/344-345)

5– راجع: شرح النووي على صحيح مسلم (18/116).

6– راجع: إصلاح المجتمع ص (15).

7– مقاييس اللغة لابن فارس (2/472-473).

8– التعريفات ص119.

9– الزواجر (1/43).

10– فتح الباري (11/344).

11– متفق عليه.

12– متفق عليه.

13– أحمد في المسند (5/429)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1555).

14– راجع الإحياء (3/296).

15– المصدر السابق (3/296-297).

16– نزهة الفضلاء (1/357).

17– راجع:  الزواجر لابن حجر (1/44).

18– إحياء علوم الدين (3/297).

19– إحياء علوم الدين (3/301-302).

20– الكبائر ص (154).

21– أحمد في المسند (5/429)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1555).

22– راجع الزواجر (2/44).

23– راجع: الزواجر لابن حجر (1/43-46).

24– راجع: إحياء علوم الدين (3/310-314).

25– ذكر هذه المذام الثلاثة ابن حجر في الزواجر (1/47).

26– راجع: ابن القيم الفوائد (226).

27– راجع: نضرة النعيم (10/4567).