مبايعة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم

مبايعة الصحابة رضي الله عنهم للنبي  

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد:

فقد كان الصحابة – رضوان الله عليهم – يبايعون رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره نصرة لدين الله، وحماية لرسوله ، وقد كانت البيعة تختلف من شخص لآخر، ومن فئة إلى أخرى قال القرطبي – رحمه الله -: “كانت مبايعة النبي لأصحابه بحسب ما يحتاج إليه من تجديد عهد، أو توكيد أمر؛ فلذلك اختلفت ألفاظهم1 .

وممن بايع النبي من الصحابة، وذكر ذلك على لسانه: جرير بن عبدالله البجلي – رضي الله عنه -، فقد بايع النبي  على جُمل من شرائع الإسلام، ومبانيه العظام، وسيكون موضوعنا حول حديث جرير – رضي الله عنه -:

نص الحديث:

عن جرير بن عبدالله – رضي الله عنه -: “بايعت رسول الله ﷺ على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم”

شرح الحديث: أشار الحديث هنا إلى ركنين من أركان الإسلام، ولم يذكر الأركان الأخرى مع أنها من الأركان العظمى للإسلام، وقد علل العلماء ذلك بتعليلات منها قال القاضي  عياض: “اقتصر على الصلاة والزكاة لشهرتهما، ولم يذكر الصوم وغيره لدخول ذلك في السمع والطاعة”3 

قوله: “على إقامة الصلاة”: هذه هي المسألة الأولى التي بايع جرير النبي  عليها، وهي: إقامة الصلاة؛ ذلك أن الصلاة أحد أركان الإسلام، وعموده الذي لا يقوم إلا به، وهي العهد الذي بيننا وبين من خالفنا، ولا دين لمن لا صلاة له، وفي الحديث الشريف: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى4 .

وإنك لتجد في معظم السور القرآنية ذكر الصلاة والزكاة مقرونة إحداهما بالأخرى، وذلك من أول ما بعث به النبي كما يعلم من ترتيب التنزيل، وهي من أول الشرائع المحمدية، وكان يتعبد بها قبل الإسلام سائر الكفرة من أهل الكتاب والمشركين، ومنذ أن بعث الله نبي الإسلام ، وهو وأتباعه يصلون صلاة مفروضة عليهم ذات كيفية مخصوصة في وقت معلوم: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (سورة هود:114)، إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا۝ إِلَّا الْمُصَلِّينَ۝ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ۝ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ۝ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (سورة المعارج:19-25)، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (سورة البينة:5).

فلما أراد الله أن يتم نعمته، ويظهر فضله على نبيه محمد ﷺ؛ أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بورك حوله، ثم رفعه الله، وقربه منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأعطاه من الخير حتى رضي، وأوجب عليه وعلى أمته في اليوم والليلة خمسين صلاة، ومازال يراجع ربه تعالى حتى جعلها خمساً، وجعل الحسنة بعشرة أمثالها إلى أضعاف كثيرة، وعلمه بعد ذلك كيفية الصلاة، وحدد له أوقاتها كما يقول تعالى: إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا (سورة النساء:103)، وجعلها أساساً لدينه، وأحد أركانه الخمسة، وبشر القائمين بها بقوله: لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (سورة النساء:162). وسماهم المؤمنين حقاً، ووعدهم بالخير والدرجات العلى فقال سبحانه في وصفهم: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ۝ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (سورة الأنفال:3-4).

وحذر من تركها والتهاون بها فقال: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (سورة مريم:59).

وتوعدهم بالويل فقال تعالى: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (سورة الماعون:4-5).

وجعل للقائمين بها والمحافظين عليها حرمة أهل الإسلام، فلا تراق دماؤهم، ولا تباح أموالهم، ولا أعراضهم؛ ولو كانوا منافقين أو مبتدعين مخالفين.

وقد استأذن رجل من الأنصار في قتل أحد المنافقين فقال له النبي : أو ليس يصلي؟ قال: بلى ولا صلاة له، قال: فإني نهيت عن قتل المصلين5 ، لكن الزنديق الذي يبطن الكفر، ويستهزئ بالأديان؛ لا يصان دمه، ولا يكون له عهد عند الله والناس، وإن صام وصلى؛ واختلف في قبول توبته؛ لأنه لا يصدق بثواب، ولا عقاب، ولا يؤمن بالبعث والجزاء، وحكم على تارك الصلاة مطلقاً بالكفر استدلالا بالحديث الشريف: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة6 .

ومن ترك صلاة حتى يخرج وقتها التي تؤدى أو تجمع مع غيرها فيه وهو جاحد لوجوبها قتل كفراً بالاتفاق، وإن كان متكاسلاً استتيب عند الأكثرين، فإن تاب وإلا قتل حداً، وجاحدها أيضاً لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يقبر في مقابر المسلمين، وإن كان يزعم أنه مسلم.

وذكرت الصلاة عند النبي يوماً فقال: من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبي بن خلَف7 .

ومن المؤسف جداً أن المسلمين يعرفون كلهم ما جاء في أمر الصلاة عن الله – تعالى – ورسوله ، ويمرون بذلك في أكثر من مائة آية من القرآن، وهم اليوم يتهاونون بشأنها، ويخرجونها عن أوقاتها، ويرونها عادة قديمة، وطقوساً دينية لا يهتم بها إلا العاطلون الرجعيون، فيولون معرضين، وعن الخير مدبرين: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ (سورة المائدة:58).

ومنهم من إذا سمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؛ يقول – بلسان حاله – في جرأة وقلة حياء: حي على المال والعمل يا ذوي العجز والكسل: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى۝ وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى۝ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى۝ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى۝ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (سورة القيامة:31-35)، فيا معشر المسلمين: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ (سورة البقرة:238).

قوله “وإيتاء الزكاة”:

هذه المسألة الثانية من المسائل التي بايع جرير – رضي الله عنه – النبي عليها: إيتاء الزكاة، ذلك أن الزكاة قرينة الصلاة، وثالث أركان الإسلام، وقد مدح الله تعالى فاعلها، وذم تاركيها، ونسبهم إلى الكفر فقال تعالى: وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ۝ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (سورة فصلت:6-7).

وحين مات رسول الله ارتد كثير من العرب، ومنعوا الزكاة، فقاتلهم أبو بكر الصديق – رضي الله عنه -، وقال: “والله لو منعوني عناقاً أو عقالاً كانوا يدفعونه إلى رسول الله  لقاتلتهم عليه”، وهي كذلك في الشرائع القديمة، وقد أمر الله بها بني إسرائيل في قوله تعالى: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (سورة البقرة:43)، ولم تكن محدودة في بادئ الأمر، ولا من شيء دون شيء، وكان أمرها كما في الآية الكريمة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (سورة البقرة:3)، ولكنها بعد عينت وبينت بياناً تاماً، وأوجبها الإسلام على أهله في الإبل والبقر، والغنم والنقدين: الذهب والفضة، وفي عروض التجارة، وفي الركاز والمعدن، وفي الحبوب والثمار، ولها مسائل كثيرة مفصلة في كتب الفقه والحديث. ومن الزكاة: الفطرة، التي هي صاع من غالب قوت البلد، تجب على كل مسلم صغير وكبير، وذكر وأنثى، وحر وعبد؛ يخرجها عن نفسه، وهي عليه وعمن تلزمه نفقته إذا كان موجوداً عند غروب الشمس آخر يوم في رمضان، ومن لم يجد قوت يومه وليلته فلا شيء عليه، ولا تجب الزكاة كلها إلا مرة في السنة الواحدة، بيد أن نتاج المواشي وربح التجارة يعد حوله بحول أصله، ويأخذها الإمام جوازاً إن لم يطلبها، ووجوباً إذا طلبها. قوله: “والنصح لكل مسلم”: هذه هي المسألة الثالثة من المسائل التي بايع جرير بن علدالله – رضي الله عنه – النبي عليها: “النصيحة لكل مسلم”، وعليه فإن النصيحة واجبة لكل مسلم؛ فهي التي يعز الله بها الحق، ويخذل بها الباطل، وينصر بها المظلوم، ويزال بها المنكر، ويدعى بها إلى الخير، وقد جعلت أساس الدين في قوله : الدين النصيحة، قال: لمن يا رسول الله؟ قال: لله وملائكته، ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم8 .

وحق أخيك إذا استنصحك أن تمحضه النصح، وتجتهد له في إصابة الصواب، وهي تختلف باختلاف الناس: فعلى العالم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإخلاص في وعظه وإرشاده، وتعلمه وتعليمه، وعلى التاجر النصح لعميله وزميله، فلا يغشه ولا يخدعه، ولا يبيع منه معيباً، ولا يغرر به في الإرسال إلى الخارج، وتصدير ما يحتاج إليه البلاد، واستيراد ما لا يفيد وما لا حاجة للناس فيه، والصانع والعامل ينصح للناس في صنعته وعمله ليكسب ثقتهم به، ويستميل قلوبهم إليه، وليعينه الله بالصحة في بدنه، والتوفيق في عمله.

وإذا نصح الملوك والرؤساء لرعيتهم وبالعكس استتب لهم الأمن، وظهر العدل، وسعدت البلاد وأبناؤها.

ومن أجل ذلك كانت البيعة تؤخذ على المسلمين بالسمع والطاعة، والنصح لكل مسلم؛ وإذا نصحت أخاك، وأخلصت له فيما تقول وتفعل؛ فقد أطعت ربك، وأرضيت ضميرك، وإن قيل فيك ما لا تحب، وإن اتهمت بالسفاهة والحمق وضعف الرأي، ولك في ذلك أسوة بنبي الله هود : قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ۝ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ۝ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ9  (سورة الأعراف:66-68)، قال ابن بطال – رحمه الله -: “والنصيحة فرض يجزئ فيه من قام به، ويسقط عن الباقين، والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه، ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه، وأما إن خشي الأذى فهو في سعة منها. قال أبو بكر الآجري: ولا يكون ناصحاً لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ إلا من بدأ بالنصيحة لنفسه، واجتهد في طلب العلم، والفقه، ليعرف به ما يجب عليه، ويعلم عداوة الشيطان له، وكيف الحذر منه، ويعلم قبيح ما تميل إليه النفس حتى يخالفها بعلم. وروى الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة وكان يقرأ الكتب؛ قال: قال الحواريون لعيسى بن مريم: من الناصح لله تعالى؟ قال: “الذي يبدأ بحق الله قبل حق الناس، فإذا عرض له أمران: أمر دنيا وآخرة؛ بدأ بعمل الآخرة، فإذا فرغ من أمر الآخرة تفرغ لأمر الدنيا”، وقال الحسن البصري: “ما زال لله ناس ينصحون لله في عباده، وينصحون لعباد الله في حق الله عليهم، ويعملون له في الأرض بالنصيحة، أولئك خلفاء الله في الأرض”10

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 1  فيض القدير (7/6).

 2  رواه البخاري ومسلم.

 3  فتح الباري لابن حجر (1/ 90).

 4  رواه البخاري ومسلم.

 5 رواه الطبراني في المعجم الكبير.. قال الهيثمي في مجمع الزائد (1/202): “فيه عامر بن يساف وهو منكر الحديث”، لكن جملة: (إني نهيت عن قتل المصلين) قد صحت في روايات أخرى غير هذه القصة.

 6 رواه مسلم من حديث جابر بن عبدالله.

 7 رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان، وصححه الألباني في تعليقه على المشكاة رقم (578).

 8 رواه مسلم.

 9 المجتمع، صـ(325-333) للبيحاني.

 10  شرح البخاري لابن بطال (1/121).