كفوا صبيانكم

كفوا صبيانكم

كفوا صبيانكم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد روى البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا كان جنح الليل، أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئاً، وأطفئوا مصابيحكم)1.

غريب الحديث:

قوله: (جنح الليل) بكسر الجيم وضمها الظلام، معناه طائفة من ظلام الليل.

قوله: (أو أمسيتم) أي دخلتم في المساء.

قوله: (فكفوا صبيانكم) أي امنعوهم من الخروج في هذا الوقت.

قوله: (فإن الشياطين تنتشر حينئذ) أي جنس الشيطان، ومعناه أنه يخاف على الصبيان ذلك الوقت من إيذاء الشياطين لكثرتهم حينئذ -والله أعلم-.

قوله: (فخلوهم). أي لا تمنعوهم من الدخول والخروج، وفي رواية: (فحلوهم).

قوله: (وأوكوا) الوكاء: هو ما يشد به رأس القربة.

قوله: (وخمروا) من التخمير وهو التغطية.

قوله: (ولو أن تعرضوا) أي إن لم يتيسر التغطية بكمالها فلا أقل من وضع عود على عرض الإناء.

 

قوله: (وأطفئوا مصابيحكم) جمع مصباح، وذلك لأجل الفأرة، فإنها تضرم على الناس بيوتهم، وأما القناديل المعلقة في المساجد والبيوت فإن خيف منها أيضاً فتطفأ وإلا فل2.

شرح الحديث:

هذا حديث عظيم، بين النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه الآداب الجامعة لمصالح الدنيا والآخرة؛ قال النووي-رحمه الله-: "هذا الحديث فيه جمل من أنواع الخير، والآدب الجامعة لمصالح الآخرة والدنيا، فأمر صلى الله عليه وسلم بهذه الآداب التي هي سبب للسلامة من إيذاء الشيطان، وجعل الله -عز وجل- هذه الأسباب أسبابا للسلامة من إيذائه فلا يقدر على كشف إناء، ولا حل سقاء، ولا فتح باب، ولا إيذاء صبى وغيره؛ إذا وجدت هذه الأسباب"3.

وقال ابن حجر: "قال ابن الجوزي: إنما خيف على الصبيان في تلك الساعة لأن النجاسة التي تلوذ بها الشياطين موجودة معهم غالباً، والذكر الذي يحرز منهم مفقود من الصبيان غالباً، والشياطين عند انتشارهم يتعلقون بما يمكنهم التعلق به، فلذلك خيف على الصبيان في ذلك الوقت. والحكمة في انتشارهم حينئذ أن حركتهم في الليل أمكن منها لهم في النهار؛ لأن الظلام أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وكذلك كل سواد. ولهذا قال في حديث أبي ذر: فما يقطع الصلاة؟ قال: "الكلب الأسود شيطان " أخرجه مسلم.4

ويقول البيحاني: "ففي هذا الحديث القصير في جُمَله الطويل في معانيه وما يأمر به، يأمر النبي-صلى الله عليه وسلم- بخمسة أشياء من آداب المبيت، وكلها تعود بالنفع العاجل، والمصلحة الحسية، واتقاء البأس من الجنة والناس، وهي كف الصبيان عند غروب الشمس، وإغلاق أبواب البيوت، وتوكية القرب، وتغطية الآنية، وإطفاء المصابيح من أجل أن الشياطين تنتشر عند الغروب، فتعيث فساداً في الأرض، وتصيب الأطفال الذين يعبثون بالحشرات إذا خرجت من أحجارها، ويرمون طيور الليل إذا انبعثت من أوكارها، وتقوم المعارك بينهم في الشوارع وعلى الأبواب إذا اشتغل أهلهم بصلاة المغرب وتدبير المنازل، وقد يلعبون بالوضف والمزاريق والكرة والقلة والخذروف فيصيبون بها وجوه المارة وأعينهم، ويدفعها الشيطان بأيديهم إلى حيث يكون الخطر، ويحصل الضرر.

فينبغي كفهم والمحافظة عليهم في تلك الساعة، ساعة المغرب، وسيغلبهم النوم بعد ذلك، فإن كانوا صغاراً استراحوا وأراحوا، وإن كانوا كباراً اشتغلوا بالصلاة والعشاء ومطالعة دروسهم، أو استمعوا لأحاديث آبائهم التي يعرفون بها الماضي ويستعدون بها للمستقبل..

وحفظ البيوت بإغلاق أبوابها، يرد عنها شياطين السراق الذين يستترون بالظلام فيدخلون المنازل مع الصبيان والبهائم وحين يغفل سكانها.

وإذا ذكر اسم الله وأغلق الباب فقد حفظ الإنسان نفسه، وأحرز ماله حساً ومعنى وقالت شياطين ا لجن بعضهم لبعض: لا مبيت لكم هاهنا ولا عشاء، ومهما تكن قوة الأبواب، وإحكام إقفالها، فلابد من التسمية التي يدفع الله بها من البأس ما لا يدفع بها بالمسامير والغلق، والشيطان لا يفتح باباً مغلقاً إلا السارق الذي بضاعته المفاتيح المختلفة والمبرد والمنشار، وآلة النقب والحفر، فيخذله الله ويخيب آماله بالتعاويذ والتحصن بالتسمية وذكر الله، فإذا جاء فزعن وإن حاول الدخول لم يجد الفرصة، يحس به الجار، ويزعجه المار، ويستيقظ النائم، فيعود بخفي حنين، أو يقبض عليه فيكتف ويضرب، وتجازيه بما يستحق.

والمبعوث بسعادة الدنيا والآخرة، وحفظ النفوس والأموال يأمر باتخاذ الأسباب في طلب الخير، والابتعاد عن المكروه بتوكية الأسقية، وتغطية الآنية، فلا يفسدها الهواء، ولا تدخلها الحشرات.

وقد روي أن رجلاً شرب من فم السقاء فانسابت على بطنه حية كانت في الماء، وما دخلت فيه إلا لإهماله وتركه مفتوحاً.

وكذلك نهينا عن الشرب من ثلمة الإناء التي لا يستحكم الشرب منها، ولا يقع عليها الغطاء. وفي آداب الشرب من كتب الحديث النهي عن التنفس في الإناء والشرب قائماً.

وفائدته مع الامتثال: العناية بالصحة، والابتعاد عن المخاوف.

وعليك لنفسك ولغيرك الإتقان في العمل، والإحكام فيما تفعل وتترك؛ فلا يكن بابك ضعيف قفله، ولا تنم وهو مفتوح، ولا تأكل من كل طعام، وتشرب من كل إناء، وتعد ذلك توكلاً على الله؛ فقد قال رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (هل أعقل ناقتي أم أتركها، وأتوكل على الله؟) فقال صلى الله عليه وسلم: (أعقلها توكل)5. ثم لا إفراط في الشكوك والأوهام والفزع ولا تفريط بالإهمال والتقصير، واتخاذ ما يلزم، وابتغ بين ذلك سبيل6.

ما يؤخذ من الحديث:

1.  أهمية البسملة، وأنها تحمي الإنسان من أذى شياطين الجن والإنس، ولذلك حث النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها كثيراً؛ فمن ذلك ما بينه النبي هنا في الحديث: (أغلق بابك واذكر اسم الله، وأطفىء مصباحك واذكر اسم الله، وخمر إناءك واذكر اسم الله، وأوك سقاءك واذكر اسم الله)7، وقال: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: "بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا" فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً)8، وقال لعمر بن أبي سلمة: (يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك)9، وقال: (إن الشيطان ليستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه)10، وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)11. وروى ابن ماجه والترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله).12

2.   أن المصابيح المراد إطفاؤها ما كان يظن فيه الإحراق لو ترك، ويدخل في ذلك إطفاء كل نار يحتمل ضررها، قال النووي: "هذا عام يدخل فيه نار السراج وغيره، وأما القناديل المعلقة فإن خيف بسببها حريق دخلت في ذلك، وإن حصل الأمن منها كما هو الغالب فلا بأس بها لانتفاء العلة".

3.   ما جاء في الحديث من أوامر تدل على حفاظ الإسلام على الأرواح والممتلكات، من شياطين الإنس والجن، وحتى من الحشرات والحيوانات المؤذية؛ ومن امتثل تلك الأوامر فهو مأجور. قال القرطبي: "جميع أوامر هذا الباب من باب الإرشاد إلى المصلحة ويحتمل أن تكون للندب، ولا سيما في حق من يفعل ذلك بنية امتثال الأمر".

4.   قال ابن العربي: ظن قوم أن الأمر بغلق الأبواب عام في الأوقات كلها، وليس كذلك وإنما هو مقيد بالليل؛ وكأن اختصاص الليل بذلك لأن النهار غالباً محل التيقظ بخلاف الليل، والأصل في جميع ذلك يرجع إلى الشيطان فإنه هو الذي يسوق الفأرة إلى حرق الدار.13

5.   في هذا الحديث دليل على أن المصطفى صلى الله عليه وسلم أشفق على أمته من الوالدة بولدها، ولم يدع شفقته دينية ولا دنيوية إلا أرشد إليها.

6.  قال القرطبي: "تضمن هذا الحديث أن الله أطلع نبيه على ما يكون في هذه الأوقات من المضار من جهة الشياطين والفأر والوباء، وقد أرشد إلى ما يتقي به ذلك فليبادر إلى فعل تلك الأمور ذاكراً لله ممتثلاً أمر نبيه صلى الله عليه وسلم شاكراً لنصحه، فمن فعل لم يصبه من ذلك ضرر بحول الله وقوته.14

هذا بعض ما يستفاد من حديث موضوعنا هذا، والله أعلم.


 


1 رواه البخاري ومسلم.

2 راجع: عمدة القاري (21/197)، وشرح مسلم للنووي، (13/185) ونيل الأوطار (1 /85 ).

3 شرح مسلم، للنووي (13/185).

4 فتح الباري (10/64).

5 رواه الترمذي، وحسنه الألباني في تخريج أحاديث مشكلة الفقر، رقم(22).

6 إصلاح المجتمع، صـ(304- 305). للبيحاني.

7 سبق تخريحه.

8 رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

9 رواه البخاري ومسلم.

10 رواه أبو داود، وصححه الألباني؛ كما في صحيح الجامع، رقم (1653).

11 رواه مسلم.

12 رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، رقم(242).

13 فتح الباري لابن حجر العسقلاني (10/94).

14 فيض القدير، للمناوي (1/542).