اتخاذ معابد المشركين مساجد

اتخاذ معابد المشركين مساجد

الحمد لله الذي فقَّه من أراد به خيراً في الدين، ورفع منازل العلماء فوق العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهد لنفسه بالوحدانية، وشهد بها ملائكته والعلماء من المؤمنين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث هدى للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد يتساءل متسائل عن حكم اتخاذ الكنائس ومعابد المشركين مساجد ومصليات يُتعبد فيها لله رب العالمين هل يجوز ذلك أم لا يجوز؟

وللجواب عن هذه المسألة نقول:

*معابد المشركين هي: الصوامع، والبيع، والكنائس، وغيرها من الأماكن التي يتعبدون فيها1.

وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في حكم الصلاة في معابد المشركين على ثلاثة أقوال:-

القول الأول: إذا كان في هذه المعابد صور أو تماثيل لم تصح الصلاة فيها، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك صحت الصلاة فيها، قال ابن عبد البر: “وكذلك أجمعوا على أن من صلى في كنيسة أو بيعة في موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة”2 وكذا حكاه القرطبي إجماعاً3، وبه قال ابن حزم. 

القول الثانيأن الصلاة تجوز بالكنيسة مطلقاً، ذكره في المغني عن الحسن وعمر بن عبد العزيز، والشعبي والأوزاعي وغيرهم4.

القول الثالثلا تجوز الصلاة في معابد المشركين قال به مالك، إلا أنه قال: “أرجو إذا كانت الضرورة أن يكون في ذلك سعة إن شاء الله”5.

الأدلـة:

استدل أصحاب القول الأول بما يلي:

1- عموم قوله : وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا6 فهذا الحديث يدل على أن كل أرض طاهرة تصلح للصلاة، ومعابد المشركين إذا كانت أرضها طاهرة فالصلاة فيها صحيحة.

2- عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ  قَالَ: “خَرَجْنَا وَفْدًا إِلَى النَّبِيِّ  فَبَايَعْنَاهُ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّ بِأَرْضِنَا بِيعَةً لَنَا، فَاسْتَوْهَبْنَاهُ مِنْ فَضْلِ طَهُورِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، وَتَمَضْمَضَ، ثُمَّ صَبَّهُ فِي إِدَاوَةٍ، وَأَمَرَنَا فَقَالَ: اخْرُجُوا فَإِذَا أَتَيْتُمْ أَرْضَكُمْ فَاكْسِرُوا بِيعَتَكُمْ، وَانْضَحُوا مَكَانَهَا بِهَذَا الْمَاءِ، وَاتَّخِذُوهَا مَسْجِدًا 7، الشاهد قوله: فَاكْسِرُوا بِيعَتَكُمْ وقوله: وَاتَّخِذُوهَا مَسْجِدًا ووجه الدلالة: أن رسول الله  أمر هؤلاء الذين أسلموا أن يتخذوا مكان عبادتهم وهم مشركون مسجداً بعد أن أسلموا؛ وذلك يدل على جواز اتخاذ معابد المشركين مساجد.

3- قال البخاري –رحمه الله-: “وقال عمر : “إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور”، وكان ابن عباس يصلي في البيعة، إلا بيعة فيها تماثيل”8 قال ابن حجر – رحمه الله – عن أثر عمر أنه وصله عبد الرزاق، وأثر ابن عباس وصله البغوي في الجعديات”9، فهذان صحابيان جليلان صليا في معابد المشركين، وامتنعا عنها حين كان فيها أوثان وصور، ولم يعرف لهما مخالف؛ مما دل على أن الصلاة في معابد المشركين وفيها التماثيل والصور لا تجوز.

واستدل الفريق الثاني بأدلة الفريق الأول، قالوا: ولأن من شرط الصلاة طهارة البدن، والثوب، والموضع، وقد حصل ذلك كله، وقد دخل النبي  الكعبة وفيها صور.

واستدل مالك -رحمه الله تعالى- بحديث عَائِشَةَ – رضي الله عنها – أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ – رضي الله عنها – ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمْ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَوْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ 10، والشاهد قوله: بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ، ووجه الدلالة أن رسول الله  أخبر أن معابد المشركين مبنية على قبور، وأنها تحتوي على صور وتماثيل، فلا تجوز الصلاة فيها.

المناقشة:

بتمعن أدلة الفريق الأول والثاني نجد أن القول بمنع الصلاة في الأماكن التي بها تماثيل مؤيد بفعل صحابيين لم يظهر لهما مخالف؛ ولأن المانع ليس لذات الصلاة ولكن سداً لذريعة مشابهة المشركين؛ ولأنه إذا صح منع المسلم عن الصلاة في مسجد الضرار وهو مسجد فمعابد المشركين من باب أولى لكونها لم تبن لعبادة صحيحة، لكن باعتبار أصل العبادة فيها قبل مبعث النبي  صحيحة إذا سلمت من التحريف، فإنه عند زوال التماثيل والصور تصح الصلاة فيها؛ لانتفاء المحذور حينئذ وهو التشبه بالمشركين في عباداتهم.

وأما أنه  دخل الكعبة وفيها صور فإنه أمر بطمس تلك الصور وإزالتها، فإن قيل: الصلاة إلى الكعبة وفيها أصنام وتماثيل صحيحة، فمعابد المشركين مثلها، فيقال: إنما صحت الصلاة إلى الكعبة وفيها التماثيل حين كانت بيد كفار، ولم يتمكن المؤمنون بعد من تطهيرها، ولو جعلت الأصنام فوق الكعبة أو فيها -والعياذ بالله تعالى من هذا- لم تبطل الصلاة إليها؛ لكونها القبلة، ويجب على المؤمنين تطهيرها، وهي – بحمد الله – طاهرة في زمننا هذا. وأما دليل مالك: فيجاب عنه: بأنه ثبت – فيما تقدم – أن النبي  أجاز اتخاذ معابد المشركين مساجد، فإن قيل: إن ما في معابد المشركين قبوراً فالصلاة فوقها وإليها محرمة؟ فيقال: نعم إن تأكد الإنسان من وجود القبر فليس له الصلاة حتى ولو كان في مسجد، فإن الصلاة إليه وعليه لا تجوز، فتنبش قبور المشركين وتزال عن المساجد؛ لأنه لا حرمة للمشركين، ولفعل النبي ﷺ، وبهذا يظهر أن أرجح الأقوال هو أولها، والله أعلم.

نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن ييسر لهذه الأمة ما يحفظ به عليها دينها، وينصر به أهل طاعته، ويذل به أهل معصيته إنه جواد كريم، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين11.


1 الصوامع: قال ابن عباس: هي المعابد الصغار للرهبان، وكذا قاله مجاهد وأبو العالية وعكرمة والضحاك، وقال الخليل: كل منضم فهو متصمع، ومن ذلك اشتقاق الصومعة، والبِيَع: هي أوسع من الصوامع وهي للنصارى قاله أبو العالية وقتادة والضحاك وغيرهم، وقيل: إنها كنائس اليهود، ومثلها صلوات لليهود يسمونها صلوتاً، والكنائس معروفة، انظر: تفسير ابن كثير, ومختار الصحاح.

2 التمهيد لـ(ابن عبد البر) (5/179).

3 تفسير القرطبي (10/51).

4 المغــني لـ(ابن قدامة) (3/231).

5 المدونة للإمام (مالك) (1/196).

6 رواه البخاري 323 (2/58).

7 رواه النسائي 694 (3/109) وصححه الألباني في تحقيق صحيح النسائي برقم (701).

8 رواه البخاري (2/213).

9 فتح الباري لابن حجر (2/158).

10 رواه البخاري 416 (2/214).

11 أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية لـ(إبراهيم بن صالح الخضيري) بتصرف.