الاهتمام بعِلْية القوم

الاهتمام بعِلْية القوم

الاهتمام بعِلْية القوم

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبشكره تنال الكرامات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه، فوصلوا باتباعه إلى أعلى المقامات.. أما بعد:

فإن إنزال الناس منازلهم منهج نبوي، والاهتمام بأهل الحي الوجهاء والأغنياء منهم -وهم الذين يطلق عليهم القرآن الملأ- وتوصيل الدعوة إليهم، أمر مطلوب من الدعاة، وأئمة المساجد.

ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على إسلام زعماء قريش، لتأثيرهم في نصرة الدعوة، أكثر من غيرهم من عامة الناس.

قال ابن كثير عند تفسير قول الله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}(1) سورة عبس، "ذكر غيرُ واحد من المفسرين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يوماً يخاطبُ بعض عظماء قريش، وقد طَمع في إسلامه…"1.

وقال البغوي: "وذلك أنه أتى -يعني ابن أم مكتوم- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأبيّ بن خلف، وأخاه أمية، يدعوهم إلى الله، يرجو إسلامهم.."2. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من لم يرحم صغيرنا و يعرف حق كبيرنا فليس منا)3 أي ليس على ديننا ومذهبنا وقيل: أي من خواصنا، وهو كناية عن التبرئة.

إن الاهتمام بالوجهاء والأغنياء وأهل الأفضل والكبراء وإنزالهم منازلهم، مطلب في الدعوة ولا شك، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أنزلوا الناس منازلهم)4.

وقال العظيم أبادي في عون المعبود:"أي عاملوا كل أحد بما يلائم منصبه في الدين والعلم والشرف. قال العزيزي: والمراد بالحديث الحض على مراعاة مقادير الناس، ومراتبهم ومناصبهم، وتفضيل بعضهم على بعض في المجالس، وفي القيام وغير ذلك من الحقوق"5.

وجاء في سنن أبي داود عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب أن عائشة مر بها سائل فأعطته كسرة، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة، فأقعدته، فأكل، فقيل لها في ذلك، فقالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أنزلوا الناس منازلهم)"

وقال المناوي:" (أنزلوا الناس منازلهم) أي احفظوا حرمة كل واحد على قدره وعاملوه بما يلائم حاله في عمر ودين وعلم وشرف؛ فلا تسووا بين الخادم والمخدوم، والرئيس والمرؤوس، فإنه يورث عداوة وحقداً في النفوس، والخطاب للأئمة أو عام، وقد عد العسكري هذا الحديث من الأمثال والحكم، وقال: هذا مما أدب به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أمته من إيفاء الناس حقوقهم، من تعظيم العلماء والأولياء، وإكرام ذي الشيبة وإجلال الكبير، وما أشبهه"6.

فإمام المسجد عليه أن يقوم بالتعرف على وجهاء الحي، ودعوتهم بالطريقة التي تناسبهم، وبالأسلوب الذي يراه مناسباً لهم، عسى الله -عز وجل- أن يهدي على يديه أحداً منهم، لأن دعوتهم مهمة لسببين:

– لأن الأغنياء والوجهاء وأصحاب السلطة في الغالب أكثر بعداً من غيرهم عن الدين

– ولأن في هدايتهم نفع للدعوة وأهلها.

والإكرام له أثره في النفوس، لأن النفوس مفطورة على حب التقدير، فعلى الداعية أن يعتني بالوجهاء وأهل الفضل من أهل الحي، ويبذل في هدايتهم ما بوسعه، وليعلم أن الطريق إلى قلوبهم إكرامهم واحترامهم وتوقيرهم، دون مداهنة أو ذلة، وما أجمل ما قاله المناوي في تأثير الإكرام في الناس، حيث يقول: "فإن الإكرام غذاء الآدمي، والتارك لتدبير الله تعالى في خلقه لا يستقيم حاله، وقد دبر الله تعالى الأحوال لعباده، غنى وفقراً وعزاً وذلاً، ورفعة وضعة، ليبلوكم أيكم أشكر، فالعامل عن الله يعاشر أهل دنياه على ما دبر الله لهم، فإذا لم ينزله المنزلة التي أنزله الله، ولم يخالقه بخلق حسن، فقد استهان به، وجفاه وترك موافقة الله في تدبيره، فإذا سويت بين شريف ووضيع أو غني وفقير في مجلس، أو عطية، كان ما أفسدت أكثر مما أصلحت، فالغني إذا أقصيت مجلسه أو أحقرت هديته يحقد عليك لما أن الله تعالى لم يعوده ذلك، وإذا عاملت الولاة بمعاملة الرعية فقد عرضت نفسك للبلاء، وقوله: "في الخير والشر" يريد به أن من يستحق الهوان فلا يرفع أنفع، قال علي: من أنزل الناس منازلهم رفع المؤونة عن نفسه، ومن رفع أخاه فوق قدره فقد اجتر عداوته، وقال زياد: انضم مركبنا إلى مركب أبي أيوب الأنصاري، ومعنا رجل مزاح فكان يقول لصاحب طعامنا: جزاك الله خيراً وبراً، فيغضب، فقال: اقلبوه له، فإنا كنا نتحدث أن من لم يصلحه الخير يصلحه الشر، فقال له المزاح: جزاك الله شراً، فضحك، وقال: ما تدع مزاحك"7.

فالاهتمام بصاحب المال أو ذي سلطان لأجل أنه أكثر نفعاً للدين، فهذا أمر مطلوب، وأن يسر الله تعالى على يدي الداعية هداية إنسان من الوجهاء وانتفعت الدعوة به فهذا شيء طيب. إلا أنه يجب ألا يطغى الاهتمام بهم على دعوة غيرهم من الناس. فيكون الانشغال بهم عائقاً عن دعوة أهل الفقر، والأنفة من مجالستهم، وإذا استنكف الداعية إلى الله من دعوة الفقير، فهو جاهل بالدعوة لله، فإن الدين هو دين الله.

وليعلم الداعية أن الله -عز وجل- لا يعطي الأجر على مقدار فقر الرجل وغناه، لأنه سبحانه هو الذي يهب الغنى والفقر.

وقد مر رجل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏‏فقال لرجل عنده جالس: ‏(ما رأيك في هذا؟) فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، قال: فسكت رسول الله ‏-‏صلى الله عليه وسلم- ‏‏ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله ‏ ‏-صلى الله عليه وسلم-: (ما رأيك في هذا؟) فقال يا رسول الله: هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله. فقال رسول الله ‏-‏صلى الله عليه وسلم-: ‏(‏هذا خير من ملء الأرض مثل هذا)8.

وليعلم الداعية المسلم أيضاً أن الله هو الهادي، والناصر لدينه، وأنه سبحانه وتعالى لا ينظـر إلى صور الناس وأموالهم وجمالهم، وإنما ينظر إلى أعمالهم وقلوبهم، وأن المؤمن عظيم المنزلة عند الله -عز وجل- ولو كان من أفقر الناس، وأقلهم قيمة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)9 لمكانته عند الله.

فلا بد أن يدعو الداعية، ويعلم أن هذه هي الموازين عند الله، ولا يستنكف من دعوة الفقير، وإنما هو يدعو الغني لعل الله أن ينصر به الدين، وينفع به الأمة، فإن كان هذا هو الواقع فهو أمر جائز، بل محبوب، لكن إن كان ديدنه وهواه وجلوسه مع الأغنياء، ويظن أن هؤلاء هم الأهل في الدعوة، وهم الذين يصلحون للدعوة، وهم الأهم، وأما غيرهم من عامة الناس والفقراء فلا يصلحون، فهذا هو الخطأ. لأن عوام الناس هم أسرع من غيرهم استجابة للحق، وهم أتباع الرسل، يؤمنون قبل غيرهم، كما قال هرقل لأبي سفيان: أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل"10. وقال قوم نوح عليه السلام له: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا}(27) سورة هود، وقول الملأ من قوم ثمود: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ}(75) سورة الأعراف، وكذلك كانوا هم أتباع نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في مكة، وقد أصابهم من المشركين أذىً كثيراً. وجمهور الناس في كل زمان هم أسرع الناس قبولاً للحق. قال ابن كثير: "ثم الواقع غالباً أن يتبع الحق ضعفاء الناس"11.

والسبب في ذلك -والله أعلم- أنهم سالمون من موانع قبول الحق، التي توجد عند الملأ، مثل التسلط وحب الرياسة والأنفة والكبر. وقد قال القرطبي في التفسير: "قال علماؤنا: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف، وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد للغير، والفقير خلي عن تلك الموانع، فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. وهذا غالب أحوال أهل الدنيا"12. هذا والله أسأل أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.


1 – تفسير ابن كثير – (ج 8 / ص 319)

2 – تفسير البغوي – (ج 8 / ص 332)

3 – أخرجه أبو داود (ج 13 / ص 105 – 4292)  وأحمد (ج 14 / ص 314 – 6776) وصححه الألباني في صحيح الجامع (6540)

4 – أخرجه أبو داود (ج 12 / ص 472) وقد ذكره مسلم في أول صحيحه معلقاً، وذكره الحاكم في كتابه (معرفة علوم الحديث) وقال: هو حديث صحيح. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع حديث رقم:1344.

5 – عون المعبود – (ج 10 / ص 364)

6 – فيض القدير – (ج 3 / ص 75) 

7 – فيض القدير – (ج 3 / ص 75)

8 –  أخرجه البخاري – (ج 16 / ص 34 – 4701)  

9 – أخرجه مسلم (ج 13 / ص 60 – 4754)

10 – أخرجه البخاري (ج 1 ص 7-9).

11 – تفسير ابن كثير – (ج 4 / ص 316)

12 – تفسير القرطبي – (ج 9 / ص 23)