ما يتحمله الإمام عن المأموم

ما يتحمله الإمام على المأموم

 

 

ما يتحمله الإمام عن المأموم

 

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما بعد:

فإن من مسائل صلاة الجماعة مسألة ما يتحمله الإمام على المأموم، أي ما الأمر الذي إذا تحمله الإمام سقط فعله عن المأموم؟

أمران يتحملهما الإمام وهما: قراءة الفاتحة، على خلاف بين العلماء، وسهو المأموم.

فأما قراءة سورة الفاتحة وهل تجزئ عن المأموم قراءة الإمام لها، أم يجب على المأموم قراءتها، فقد جرى فيها الخلاف بين العلماء، وأقوالهم في ذلك:

 

القول الأول: أن المأموم لا يقرأ بحال، أي أن الإمام يتحمل عن المأموم القراءة، فلا يقرأ في السرية ولا في الجهرية، وهذا قول الأحناف، واستدلوا على هذا بما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة).1

قالوا: دل الحديث على أن قراءة الإمام قراءة للمأموم سواء في السرية والجهرية حيث لم يخص الجهرية دون السرية.

واستدلوا -أيضاً- بآثار عن بعض الصحابة.

 

القول الثاني:

أن القراءة خلف الإمام واجبة مطلقاً في السرية والجهرية.

وهو قول الإمام الشافعي وأكثر أصحابه، واختاره البخاري وألف فيه كتاباً بعنوان: (خير الكلام في القراءة خلف الإمام) وهو اختيار الشوكاني كما ذكر ذلك في نيل الأوطار. ومن المعاصرين: أحمد بن محمد شاكر، والشيخ ابن باز وابن عثيمين، وغيرهم.

 

ومن أدلتهم: عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) رواه البخاري ومسلم.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج -ثلاثاً- غير تمام) رواه مسلم.

 

وحديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: كنا خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الفجر فقرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: (لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟) قلنا: نعم هذا يا رسول الله، قال: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها).2

فقالوا: دلت هذه الأحاديث على وجوب القراءة مطلقاً للإمام والمأموم في الصلاة الجهرية أو السرية.

واستدلوا –أيضاً بآثار عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم-.

 

القول الثالث:

تجب القراءة على المأموم في السرية، وإذا كان في الجهرية أنصت واستمع لقراءة إمامه.

وبه قال الإمام مالك وأكثر أصحابه، والإمام أحمد وأكثر أصحابه، وبه قال عبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه. وهو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن المعاصرين: الشيخ الألباني، وغيره.

وأدلتهم على ذلك: قوله -تعالى-: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف:204)، قال الإمام أحمد في رواية أبي داود: (أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة).3

 

وقال أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه-  خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال: (أقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا) رواه مسلم.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا).4

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- انصرف من صلاة فقال: (هل قرأ معي أحد منكم؟) فقال رجل: نعم يا رسول الله قال: (ما لي أنازع القرآن) فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما جهر فيها من الصلوات، حين سمعوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-).5

وحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة).6

 

وهذا القول أرجح الأقوال، وهو قول وسط تجتمع عنده الأدلة.

قال الإمام أحمد -رحمه الله-: (ما سمعنا أحداً من أهل الإسلام يقول: إن الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه إذا لم يقرأ، وقال: هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر، ما قالوا لرجل صلى وقرأ إمامه ولم يقرأ هو صلاته باطلة).7

 

وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الكلام في هذه المسألة وبين خلاف العلماء فيها.. فيقول -رحمه الله-: (للعلماء فيه نزاع واضطراب مع عموم الحاجة إليه، وأصول الأقوال ثلاثة: طرفان ووسط. فأحد الطرفين أنه لا يقرأ خلف الإمام بحال، والثاني: أنه يقرأ خلف الإمام بكل حال.

 

والثالث: وهو قول أكثر السلف أنه إذا سمع قراءة الإمام أنصت ولم يقرأ، فإن استماعه لقراءة الإمام خير من قراءته، وإذا لم يسمع قراءته قرأ لنفسه، فإن قراءته خير من سكوته، فالاستماع لقراءة الإمام أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من السكوت، هذا قول جمهور العلماء كمالك وأحمد بن حنبل وجمهور أصحابهما وطائفة من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة، وهو القول القديم للشافعي، وقول محمد بن الحسن.

 

وعلى هذا القول فهل القراءة حال مخافتة الإمام بالفاتحة واجبة على المأموم؟ أو مستحبة؟ على قولين في مذهب أحمد:

أشهرهما: أنها مستحبة، وهو قول الشافعي في القديم، والاستماع حال جهر الإمام هل هو واجب أو مستحب؟ والقراءة إذا سمع قراءة الإمام هل هي محرمة أو مكروهة؟ وهل تبطل الصلاة إذا قرأ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره :

أحدهما: أن القراءة حينئذ محرمة، وإذا قرأ بطلت صلاته، وهذا أحد الوجهين اللذين حكاهما أبو عبد الله بن حامد في مذهب أحمد.

 

والثاني: أن الصلاة لا تبطل بذلك، وهو قول الأكثرين، وهو المشهور من مذهب أحمد. ونظير هذا إذا قرأ حال ركوعه وسجوده: هل تبطل الصلاة؟ على وجهين في مذهب أحمد؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً.. إلخ ما قال).8

وقد ذكر الألباني -رحمه الله- الأدلة على هذا القول والرد على المخالفين في كتابه (صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-).9

 

فاتضح بهذا أن من العلماء من قال بأن الإمام لا يتحمل على المأموم القراءة مطلقاً، بل تجب على المأموم في السرية والجهرية، ومنهم من قال أنه يتحمل على المأموم القراءة في الصلاة الجهرية دون السرية، ومنهم من قال بأن الإمام يتحمل على المأموم القراءة مطلقاً في السرية والجهرية. والقول الوسط هو الراجح، لجمعه بين الأدلة، ومعلوم أن الجمع بين الأدلة مع الإمكان أولى من إلغاء بعضها.. وقد أمكن الجمع. وأما دعوى أن أدلة وجوب قراءة الفاتحة خاصة، وأن الأمر بالإنصات عام فيحمل العام على الخاص، فيمكن أن يقال بل العكس، حيث إن الأمر بقراءة الفاتحة عام في الصلوات، والأمر بالإنصات خاص بالصلاة الجهرية، فلم لا يحمل العام هنا على الخاص؟.

وعلى كل حال فالمسألة من أظهر المسائل اختلافاً بين العلماء، ومن ظهر له حجة أي قول وجب العمل به.. والله المستعان.

 

المسألة الثانية: مما يتحمله الإمام على المأموم.. السهو:

فإذا سها المأموم فلا سجود عليه، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة، قال ابن المنذر -رحمه الله-: (وأجمعوا على أن ليس على من سها خلف الإمام سجود، وانفرد مكحول10، فقال: عليه، وأجمعوا على أن المأموم إذا سجد أن يسجد معه).11

وقد يخطئ بعض المأمومين عندما يسجدون بعد سلام الإمام إذا سهوا، وهذا خطأ ينبغي التنبه له والتنبيه عليه..

فهاتان مسألتان: مما يتحمله الإمام على المأموم، أولاهما حصل فيها الخلاف، وثانيهما اتفق عليها الأئمة الأربعة.

والحمد لله رب العالمين.


 


1– رواه أحمد وابن ماجه. وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6487) وصحيح ابن ماجه (692).

2– رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي. وحسنه الألباني في المشكاة (854). وضعفه في مواضع أخرى كضعيف أبي داود وضعيف الترمذي.

3– ذكره ابن قدامة في المغني (1/636).

4– رواه أبو داود والنسائي.. وصححه الألباني في صحيح النسائي (921).

5– رواه مالك في الموطأ، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وصححه الألباني في صحيح أبي داود وغيره.

6– سبق تخريجه.

7– المغني لابن قدامة (1/636).

8– الفتاوى الكبرى (2/286).

9– ص 99 وما بعدها.. ط: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع –الرياض.

10– هو مكحول ابن أبي مسلم التابعي الشهير، من سبي كابل، عالم أهل الشام، حدث عنه الزهري وربيعة الرأي. توفي سنة 113 هـ رحمه الله رحمة واسعة.

11– الإجماع لابن المنذر (ص40).