الصلاة خلف الفاسق والمبتدع

 

 

 

 

الصلاة خلف الفاسق والمبتدع

الحمد لله الواحد الأحد, الفرد الصمد, الذي لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفواً أحد,والصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا رسول الله محمد, وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واعتمد, أما بعد:

فقد اتفق العلماء على كراهة الصلاة خلف الفاسق والمبتدع، ولكن اختلفوا في صحة الصلاة خلفه, والذي رجحه الإمام ابن تيمية -رحمه الله- هو أن الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع صحيحة، حيث قال: الفاسق والمبتدع صلاته في نفسه صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، ومن ذلك أن من أظهر بدعة أو فجوراً لا يرتب إماماً للمسلمين؛ فإنه يستحق التعزير حتى يتوب، فإذا أمكن هجره حتى يتوب كان حسناً، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه فمثل هذا ترك الصلاة خلفه فيه مصلحة، ما لم يفت المأموم جمعة ولا جماعة، وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة فهنا لا يترك الصلاة خلفهم إلا مبتدع مخالف للصحابة  .

وقد بين -رحمه الله- في موضع آخر أن على ولاة الأمر ألا يرتبوا مثل هؤلاء أئمة، لكن إذا رتبوا أئمة، ولم يكن في الإمكان الصلاة خلف غيرهم فإنه يصلى خلفهم خوفاً من فوات الجمعة والجماعة.

فالشيخ -رحمه الله- يوازن بين أمرين: أحدهما عدم إمكانية الصلاة خلف غيرهم، وبهذا تفوت عليه الجمعة والجماعة، والآخر الصلاة خلف الفاسق والمبتدع، وبهذا تتم له الجمعة والجماعة، وهنا يرجح الشيخ ارتكاب أخف الضررين، وتفويت أعظم المفسدين.

وهذا هو ما أجاب به عثمان  عندما دخل عليه عبيد الله بن عدي بن الخيار وهو محصور, فقال: إنك إمام عامة، ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة، ونتحرج، فقال: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.

ومن المعلوم أن هذا الإمام قد شق عصا الطاعة، وخرج على إمام المسلمين فهو إمام فتنة، وصاحب بدعة، ومع ذلك أجاز عثمان   الصلاة خلفه.

وابن عمر -رضي الله عنهما- معروف بشدة تحفظه، ومع ذلك فقد أثر عنه أنه كان يصلي خلف الخشبية والخوارج زمن ابن الزبير وهم يقتتلون، فقيل له أتصلي مع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضاً؟! فقال: من قال: حيَّ على الصلاة أجبته، ومن قال: حيَّ على الفلاح أجبته، ومن قال: حيَّ على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله قلت لا.

ويوازن الإمام ابن تيمية -رحمه الله- بين أمرين أيضاً:

أحدهما: دفع الإمام بضرر زائد على إمامته، والآخر: الصلاة خلفه، فيرى عدم جواز دفعه إذا كان يترتب على ذلك ضرر أكبر فيقول: فإذا لم يكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته لم يجز ذلك، بل يصلى خلفه ما لا يمكنه فعلها إلا خلفه،كالجمع والأعياد إذا لم يكن هناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج،والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهما الجمعة والجماعة, لأن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره, فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة، ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور مطلقاً معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع.

أما الفاسق من جهة الأعمال فالذي أفتى به سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- ، وقد أفتى بذلك أيضاً سماحة الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- أن الصلاة خلفه صحيحة إن شاء الله، مع ملاحظة أنه لا ينبغي أن يصلى خلفه إذا وجد من هو أمثل منه، وقد أشار الشيخ عبد المحسن المنيف إلى هذه الفتوى في كتابه أحكام الإمامة والائتمام في الصلاة، وذكر هذا القول عن أبي حنيفة، ورواية عن مالك اختارها كثير من متأخري المالكية، وهو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد -رحمهم الله جميعاً-.

وقد استدلوا بقوله   لأبي ذر  : (كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا؟) قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: (صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ)1. وبحديث أبي هريرة   أن رسول الله   قال: (يُصَلُّونَ بِكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ)2.

وأدلة أخرى ليس هذا موضع بسطها، كما استدلوا بفعل الصحابة  كابن عمر وأبي سعيد الخدري والحسن والحسين وغيرهم, أما مستور الحال فيجوز للرجل أن يصلي الصلوات الخمس والجمعة وغير ذلك خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقاً باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية -رحمه الله- قال: وليس من شروط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه، فيقول ماذا تعتقد؟ بل يصلى خلف مستور الحال, والله أعلم3, وصلى الله على نبينا محمد, وآله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين.

 

 

 


1 رواه مسلم برقم (1027) (ج 3 / ص 365).

2 رواه أحمد – (ج 17 / ص 351) وقال الألباني في شرح العقيدة الطحاوية – (ج 1 / ص 421) صحيح.

3  من كتاب مسؤولية إمام المسجد لـ(علي بن حسن بن ناصر عسيري).